الحديث عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - منزلة رفيعة ، والحديث عن محبته - عليه الصلاة والسلام - متعة عظيمة ! أما الألسنة فتترطب بذكره ، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وأما الآذن فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام ، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام ، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم ..
حياتنا مرتبطة بهدية وسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام ، وما عسى أن يكون الحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم ! وهل يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه في سويعاتٍ من الزمان أو في بضع محاضراتٍ وإن كثرت ؛ فإن حقّه وقدره ومقامه والواجب له عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك كله .
ولكن حسبنا - أيها الاخوة الأحبة - أن يكون لنا في مثل الأوقات ما يحيي قلوبنا ، وينشط عزائمنا ، ويقوي هممنا ، ويبعث نشاطنا ، ويحرك مشاعرنا ، ويؤجج عواطفنا ؛ لترتبط ارتباطً أوثق ، ونتبع اتباعاً أكمل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ؛ لننال خير الدنيا والآخرة ، وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة بإذن الله عز وجل .
وكما قلت عندما نظرت في هذا الموضوع رأيته كمحيطٍ متلاطم الأمواج قعره عميق ، ودرره كثيرة وعظيمة ، فعسى أن نقتبس شيئاً من ذلك وننتفع به بعون الله سبحانه وتعالى .
وقفات نبدأها بمفهوم ومعنى محبة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ونعرج من بعد على حكم هذه المحبة ، ثم نقف مع دواعيها التي تحث عليها وتقرب إليها ، ثم نتوقف عند الأسباب التي تجلب تلك المحبة ؛ لنخلص منها إلى الصور والمظاهر التي تبديها لنا وتكشف لنا في واقع مشاعرنا وكلماتنا وأفعالنا ، ثم وقفة قبل الختام في ثمار هذه المحبة وخيراتها وآثارها ؛ للننتهي إلى المحبة بين الغلو والجفاء .
ولعلنا نستطيع أن نلمّ بذلك - وإن كان في الأمر عسر - فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال القائل :
أبر بني الدنيا وأعظم من شكر **** وأكرم مخلوقٍ على سائر البشر
به الله قد أهدى إلى الناس رحمةً **** ومنه ضياء الحق في الكون قد ظهر
تبارك ربي إذ أعد محمداً **** وزكّاه بالتقوى وبالعلم والخبر
فباتوا اعتقاد الحق من أخلاقه **** وخير عباد الله أقدر من صبر
جهيراً بأمر الله يدعوا مبشراً **** وينصح من لاقاه بلأي والنذر
حلي بإصلاح الفساد ومرشداً **** إلى سبل الخيرات في البدو والحضر
دعا الناس للتوحيد والحب والوفا **** وجاد بالحسنى وأقنع بالأثر
ذر الهمة القعساء بعض صفاته **** وأقدم مقدامٍ وأحلم من قدر
رعاه إله الكون خير رعايةٍ **** فأنبت نبتاً طيب الأصل والثمر
مفهوم المحبة :
المحبة في مفهوم العرب يعرفونها بضدها ؛ لوضوحها وجلائها ؛ فإن ذهبت إلى جلّ المعاجم وجدتهم يقولون : " المحبة ضد الكره والبغض ، وأحبه أي : أوده " .
وشخّص بعضهم هذا المعنى تشخيصاً أوسع ، فقال : أحببت فلاناً في الأصل ، بمعنى أصبت حبة قلبه أي : نحو شغاف قلبه وكبد قلبه وفؤاده " .
والمقصود أن المشاعر تتسلل في هذه الموافقة والمجانسة والميل إلى أعماق الفؤاد ، وسويداء القلب فتصيب حبته - أي جوهره وأصله - ومكمنه ، فتكون حينئذٍ ليست عرضاً ظاهراً ولا صوراً جوفاء ، بل حقيقة تنبض بها خفقات القلب ، وتظهر في مشاعر النفس ، بل تبدو في بريق العين ، وفي قسمات الوجه ، وفي ابتسامة الثغر ، وفي حسن الثناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذه المحبة كما قال ابن القيم بعض - رحمه الله - في مقالة جميلة ، ووافقه ابن حجر قال : " المحبة لا تحد - أي لا يذكر لها تعريف - إذ هي أمر ينبعث بنفس يصعب التعبير عنه " .
ولعمري هو كلام دقيق ، فهل تستطيع أن تقول إني أحب فلاناً عشرة كيلو ، وهذا عشرين كيلو .. كلا ! لا تستطيع ، وهل تستطيع أن تكتشف للحب سبباً ؟ بعض الناس تلقاه فترة ، فكأن فؤادك قد مالَ إليه ، وقلبك قد هفا له ، وبعض الناس قد تعاشره دهراً وما يزال في قلبك انقباض عنه ، وفي نفسك وحشةً منه ! والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
فالمحبة سرٌ عظيم ، هو من أعظم ما تتجلى به عظمة خلق الله في هذا الإنسان ..
ما بين غمضة عين وانتباهتها **** يبدل الله من حالٍ إلى حال
فكم من محبوبٍ لكلمةٍ أو لموقفٍ ربما تغير القلب عليه ، ونفرت النفس منه ، ولذلك هذه العواطف والمشاعر لا تضبط بهذه الكلمات والتعريفات وإن كان قد ذكر العلماء للمحبة تعريفات اصطلاحيةً كثيرة .